جهود وقف إطلاق النار بغزة- ضغوط دولية ومطامع نتنياهو تعرقل الاتفاق.

في خضم الأحداث المتسارعة، تتكثف المساعي الدبلوماسية الدولية والإقليمية بهدف التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة المنكوب. تدور رحى النقاشات حول تفاصيل فنية وسياسية دقيقة، مع التركيز على القضايا الشائكة العالقة، وفي مقدمتها مصير الوجود الإسرائيلي بمنطقة محور فيلادلفيا ومعبر رفح الحيوي، بالإضافة إلى معبر نتساريم، فضلاً عن الانسحاب الكامل لقوات الجيش الإسرائيلي من الأراضي الغزاوية.
تكشف خبايا الدبلوماسية عن ضغوطات جمة ومساع حثيثة للوصول إلى صيغة توافقية لوقف إطلاق النار، في ظل تسريبات إسرائيلية تتحدث عن إصرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على استمرار العمليات العسكرية بعد إنجاز صفقة تبادل الأسرى والرهائن. وليس من قبيل الصدفة أن تتسرب أنباء تفيد بأن نتنياهو قد طالب الإدارة الأميركية بتقديم تعهدات قاطعة لاستئناف القتال فور الانتهاء من الصفقة.
على الصعيد السياسي، يعود وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المنطقة في زيارة هي التاسعة من نوعها منذ اندلاع أتون الحرب في غزة. وعلى الرغم من تصاعد حدة الضغوط الأميركية على حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، إلا أنه لا يلوح في الأفق ما يشير إلى وجود اتفاق وشيك لوقف إطلاق النار في القطاع المحاصر.
وخير دليل على ذلك، وقوع مجازر دموية مروعة تزامنت مع انطلاق المفاوضات الجارية في الدوحة، إحداها في جنوب لبنان والأخرى في غزة، مما يعكس بجلاء رغبة دفينة في تصعيد التوتر الميداني بهدف استفزاز كل من حزب الله وحماس، وبالتالي نسف كافة الجهود المضنية التي تبذلها كل من قطر ومصر من أجل تحقيق وقف لإطلاق النار.
هذه القراءة التشاؤمية للنوايا الخفية لنتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة لا تتوقف عند هذا الحد، إذ أعرب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون، وهو من المقربين لنتنياهو، عن شكوكه العميقة في إمكانية التوصل إلى نتائج إيجابية ملموسة من المفاوضات الحالية من أجل تحقيق وقف إطلاق نار مستدام وطويل الأمد.
وعلى الرغم من أن مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى قد تحدثوا عن احتمال التوصل إلى اتفاق مُرضٍ في غضون الشهر القادم، وأشاروا إلى أن زيارة بلينكن المطولة قد تبقى مفتوحة إلى حين تحقيق أهداف واشنطن الرامية إلى وقف الحرب ولو من خلال هدنة مطولة، فإن الحقيقة الجلية التي لا يمكن إغفالها، هي أن نتنياهو يسعى جاهداً لكسب المزيد من الوقت لخدمة مصالحه السياسية.
يستمر نتنياهو في الترويج لفكرة المكاسب التي يجب تحقيقها من خلال استغلال ما يصفه بالظرف التاريخي الراهن، وذلك عبر إطالة أمد الحرب. وما يعزز هذا الاحتمال هو إدراكه التام بأن هذا الظرف التاريخي قد يمتد لأشهر إضافية قبل دخول الرئيس الأميركي الجديد إلى البيت الأبيض.
وعلى الرغم من التقدم الملحوظ الذي تحرزه المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في معظم استطلاعات الرأي الأخيرة، فإن نتنياهو يبدو مقتنعاً بأن وضعه السياسي على المحك. حتى إن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد نصح نتنياهو خلال لقاء إعلامي بضرورة تحقيق انتصاره بأسرع وقت ممكن، معللاً ذلك بأن "القتل يجب أن يتوقف في غزة". ويبدو أن ترامب يرغب في أن يبدأ ولايته الرئاسية الجديدة، في حال فوزه، دون وجود دماء تسيل في غزة أو نشوب حرب مع حزب الله في لبنان.
وبناءً على هذه المعطيات، أبدت بعض العواصم الغربية تجاوباً ملحوظاً مع الضغوط الأميركية، وكذلك قيادة الجيش الإسرائيلي التي أعلنت على الملأ أن العمليات القتالية في قطاع غزة قد انتهت على المستوى العملياتي، مشيرة إلى أن الوقت قد حان للتوصل إلى اتفاق، وهو موقف له دلالاته الداخلية الإسرائيلية ومدى تأثير واشنطن على الساحة الداخلية الإسرائيلية.
تتلاقى هذه المواقف مع ما صرح به الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين خلال لقاءاته المغلقة التي عقدها في بيروت، حيث أشاع جواً من التفاؤل الحذر حول إمكانية وقف الحرب الدائرة، مع التأكيد على أن واشنطن ستمارس ضغوطاً هائلة ومكثفة من أجل تثبيت قرار وقف إطلاق النار في غزة.
في الوقت ذاته، حذر هوكشتاين كلاً من الرئيس نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري من الانزلاق إلى الرد على الهجمات الإسرائيلية، مشيراً إلى أن نتنياهو يتربص بردود الفعل هذه لتحويلها إلى كارثة إقليمية شاملة.
هذه المواقف الأميركية الصارمة تجاه إيران تشير بوضوح إلى عدم وجود أي نية لدى واشنطن لدعم التصعيد الذي يصبو إليه نتنياهو، وأن الإدارة الأميركية لن تقدم أي دعم عسكري للجيش الإسرائيلي في هذه المرحلة. ولذا، يضغط البيت الأبيض بكل ثقله من أجل تجنب المواجهة المباشرة؛ حفاظاً على المصالح الأميركية الحيوية في منطقة الشرق الأوسط، والتي ستتضرر بشدة في حال حدوث أي اهتزاز كبير.
وفي الوقت الذي يسعى فيه نتنياهو إلى تصعيد الأوضاع، لتحقيق مكاسب إضافية ضد النفوذ الإيراني المتنامي، وتعطيل المفاوضات الأميركية – الإيرانية التي تجري برعاية كل من مسقط والدوحة، فإنه بذلك يخدم مصالح خصوم الديمقراطيين في الولايات المتحدة، وخاصة الحزب الجمهوري الذي يستغل علاقة إيران بالديمقراطيين في حملاته الانتخابية الشرسة.
بالتوازي مع ذلك، لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل حسابات إيران وحزب الله في تحقيق مكاسب إقليمية استراتيجية بناءً على ما يجري خلف الكواليس. إذ سيعمل الإيرانيون وحزب الله جنباً إلى جنب على تعزيز موقفهم وتعظيم نفوذهم من خلال فرض أي وقف لإطلاق النار في غزة، وهو ما سينعكس بشكل مباشر على الوضع المتأزم في لبنان. فوقف الحرب سيظهر جلياً الدعم القوي الذي تقدمه إيران وحلفاؤها لحركة حماس ومنع هزيمتها، مع الاحتفاظ بحق الرد على استهداف طهران أو الضاحية الجنوبية لبيروت، دون التخلي عن هذه الورقة الرابحة. وأي وقف للعدوان الإسرائيلي الغاشم سيعيد لحماس القدرة على إعادة بناء بنيتها العسكرية وتطوير قدراتها القتالية.
لذلك، تسعى واشنطن جاهدة لاستغلال التناقضات الجوهرية الراهنة وتوظيفها على النحو الأمثل في خدمة سياستها الكبرى وحماية مصالحها الاستراتيجية. وهذا يتطلب الحفاظ على الاستقرار الداخلي لدول المنطقة، وهو ما يعتبره بعض المحللين السياسيين في واشنطن الوقت الأمثل لنسج تفاهمات غير علنية أو رسمية مع الإيرانيين وحلفائهم في منطقة الشرق الأوسط.
لكن أي تفاهمات ستسعى واشنطن إلى رسمها ستكون بخيط رفيع للغاية بحيث لا تكرس نفوذاً إيرانياً يمنح طهران موطئ قدم في الممرات البحرية الإستراتيجية الحساسة، وعلى وجه الخصوص في منطقة البحر الأحمر. فذلك يتعارض بشكل صارخ مع المصالح الحيوية الأميركية، ويزيد من عوامل القلق والخطر، مثل الحضور البحري المتزايد للأسطول الروسي في كل من سوريا وليبيا.